فصل: فَصْلٌ: أَنْ لَا يَكُونَ مَجْهُولًا جَهَالَةً:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: أَنْ لَا يَكُونَ مَجْهُولًا جَهَالَةً:

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَجْهُولًا جَهَالَةً تَزِيدُ عَلَى جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَهْرَ فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا مُشَارًا إلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَمًّى غَيْرَ مُعَيَّنٍ مُشَارًا إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا مُشَارًا إلَيْهِ صَحَّتْ تَسْمِيَتُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْعَقَارِ وَالْحَيَوَانِ وَسَائِرِ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَوْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا جَهَالَةَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ وَيَدْفَعَ غَيْرَهَا مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ قَدْ تَعَيَّنَ لِلْعَقْدِ فَتَعَلَّقَ حَقُّهَا بِالْعَيْنِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ وَيَدْفَعَ مِثْلَهُ جِنْسًا وَنَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ إذَا لَمْ يَصِحَّ صَارَ مَجَازًا عِوَضًا مِنْ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، وَإِنْ كَانَ تِبْرًا مَجْهُولًا أَوْ نُقْرَةً ذَهَبًا وَفِضَّةً يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ عَيْنِهِ فِي رِوَايَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَالْعُرُوضِ وَلَا يُجْبَرُ فِي رِوَايَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَالْمَضْرُوبِ وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى غَيْرَ عَيْنٍ فَالْمُسَمَّى لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا كَالْحَيَوَانِ وَالدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ وَالدَّارِ بِأَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى حَيَوَانٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ دَارٍ وَلَمْ يُعَيِّنْ لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ.
وَلِلْمَرْأَةِ مَهْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْجِنْسِ مُتَفَاحِشَةٌ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ اسْمُ جِنْسٍ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَتَحْتَ كُلِّ نَوْعٍ أَشْخَاصٌ مُخْتَلِفَةٌ.
وَكَذَا الدَّابَّةُ وَكَذَا الثَّوْبُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ يَقَعُ عَلَى ثَوْبِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالْحَرِيرِ وَالْخَزِّ وَالْبَزِّ، وَتَحْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ مُخْتَلِفَةٌ.
وَكَذَا الدَّارُ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالْهَيْئَةِ وَالتَّقْطِيعِ، وَتَخْتَلِفُ قِيمَتُهَا بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ وَالْمَحَالِّ وَالسِّكَكِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا فَتَفَاحَشَتْ الْجَهَالَةُ فَالْتَحَقَتْ بِجَهَالَةِ الْجِنْسِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ جَهَالَةَ الْعِوَضِ تَمْنَعُ صِحَّةَ تَسْمِيَتِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ لِكَوْنِهَا مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ إلَّا أَنَّهُ يُتَحَمَّلُ ضَرْبٌ مِنْ الْجَهَالَةِ فِي الْمَهْرِ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ قَدْ يَجِبُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مَجْهُولٌ ضَرْبًا مِنْ، الْجَهَالَةِ فَكُلُّ جَهَالَةٍ فِي الْمُسَمَّى مَهْرًا مِثْلُ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ يَتَحَمَّلُ وَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَكُلُّ جَهَالَةٍ تَزِيدُ عَلَى جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ يَبْقَى الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى الْأَصْلِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَعْوَاضِ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ جَهَالَةَ الْحَيَوَانِ وَالدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ وَالدَّارِ أَكْثَرُ مِنْ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ اعْتِبَارِ تَسَاوِي الْمَرْأَتَيْنِ فِي الْمَالِ وَالْجَمَالِ وَالسِّنِّ وَالْعَقْلِ وَالدِّينِ وَالْبَلَدِ وَالْعِفَّةِ يَقِلُّ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فَتَقِلُّ الْجَهَالَةُ.
فَأَمَّا جَهَالَةُ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ فَجَهَالَةٌ مُتَفَاحِشَةٌ فَكَانَتْ أَكْثَرَ جَهَالَةً مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَتَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى مَعْلُومَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ مَجْهُولَ الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ جَمَلٍ أَوْ حِمَارٍ أَوْ ثَوْبٍ مَرْوِيٍّ أَوْ هَرَوِيٍّ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ، وَلَهَا الْوَسَطُ مِنْ ذَلِكَ، وَلِلزَّوْجِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَعْطَاهَا الْوَسَطَ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهَا قِيمَتَهُ، وَهَذَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْمُسَمَّى مَجْهُولُ الْوَصْفِ فَلَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَهَذَا لِأَنَّ؛ جَهَالَةَ الْوَصْفِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ كَجَهَالَةِ الْجِنْسِ ثُمَّ جَهَالَةُ الْجِنْسِ تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ، فَكَذَا جَهَالَةُ الْوَصْفِ.
(وَلَنَا) أَنَّ النِّكَاحَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَالْحَيَوَانُ الَّذِي هُوَ مَعْلُومُ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ مَجْهُولُ الصِّفَةِ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ كَمَا فِي الذِّمَّةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَالْبُضْعُ لَيْسَ بِمَالٍ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَنْهُ، وَلِأَنَّ جَهَالَةَ الْوَسَطِ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ مِثْلُ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلُّ فَتِلْكَ الْجَهَالَةُ لَمَّا لَمْ تَمْنَعْ صِحَّةَ تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ، فَكَذَا هَذِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَحْتَمِلُ جَهَالَةَ الْبَدَلِ أَصْلًا قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، وَالنِّكَاحُ يَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ الْيَسِيرَةَ مِثْلَ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْبَيْعِ عَلَى الْمُضَايَقَةِ وَالْمُمَاكَسَةِ، فَالْجَهَالَةُ فِيهِ وَإِنْ قَلَّتْ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَمَبْنَى النِّكَاحِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُرُوءَةِ، فَجَهَالَةُ مَهْرِ الْمِثْلِ فِيهِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَهُوَ الْفَرْقُ.
وَأَمَّا وُجُوبُ الْوَسَطِ فَلِأَنَّ الْوَسَطَ هُوَ الْعَدْلُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَتَضَرَّرُ بِإِيجَابِ الْجَيِّدِ، وَالْمَرْأَةُ تَتَضَرَّرُ بِإِيجَابِ الرَّدِيءِ فَكَانَ الْعَدْلُ فِي إيجَابِ الْوَسَطِ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا» وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ الْوَسَطِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ» وَكَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمُفَوِّضَةِ أَرَى لَهَا مَهْرَ مِثْلِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ بَيْنَ الْوَسَطِ وَبَيْنَ قِيمَتِهِ فَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا مُطْلَقًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ وَلَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فِي ضَمَانِ الْإِتْلَافِ حَتَّى لَا يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ فِي الِاسْتِهْلَاكِ، بَلْ بِالْقِيمَةِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فِي الْجُمْلَةِ قُلْنَا: بِوُجُوبِ الْوَسَطِ مِنْهُ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَثْبُتُ ثُبُوتًا مُطْلَقًا قُلْنَا: يَثْبُتُ الْخِيَارُ بَيْنَ تَسْلِيمِهِ وَبَيْنَ تَسْلِيمِ قِيمَتِهِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ جَمِيعًا، وَلِأَنَّ الْوَسَطَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْقِيمَةِ فَكَانَتْ الْقِيمَةُ أَصْلًا فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَكَانَتْ أَصْلًا فِي التَّسْلِيمِ.
وَأَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلزَّوْجِ لَا لِلْمَرْأَةِ فَلِأَنَّهُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَكَانَ الْخِيَارُ لَهُ.
وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى بَيْتٍ وَخَادِمٍ فَلَهَا بَيْتٌ وَسَطٌ مِمَّا يُجَهَّزُ بِهِ النِّسَاءُ، وَهُوَ بَيْتُ النُّوَبِ لَا الْمَبْنِيُّ فَيَنْصَرِفُ إلَى فُرُشِ الْبَيْتِ فِي أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَفِي أَهْلِ الْبَادِيَةِ إلَى بَيْتِ الشَّعْرِ وَلَهَا خَادِمٌ وَسَطٌ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ؛ لِأَنَّ الْوَسَطَ مِنْهَا مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ، وَجَهَالَتُهُ مِثْلُ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلُّ فَلَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَى الْوَسَطِ.
وَلَوْ وَصَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ جَيِّدٌ أَوْ وَسَطٌ أَوْ رَدِيءٌ فَلَهَا الْمَوْصُوفُ، وَلَوْ جَاءَ بِالْقِيمَةِ تُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ هِيَ الْأَصْلُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ الْجَيِّدُ وَالْوَسَطُ وَالرَّدِيءُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَكَانَتْ الْقِيمَةُ هِيَ الْمُعَرِّفَةُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، فَكَانَتْ أَصْلًا فِي الْوُجُوبِ فَكَانَتْ أَصْلًا فِي التَّسْلِيمِ، فَإِذَا جَاءَ بِهَا تُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهَا.
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى وَصِيفٍ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَلَهَا الْوَسَطُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى وَصِيفٍ أَبْيَضَ لَا شَكَّ أَنَّهُ تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّهَا تَصِحُّ بِدُونِ الْوَصْفِ فَإِذَا وَصَفَ أَوْلَى، وَلَهَا الْوَصِيفُ الْجَيِّدُ؛ لِأَنَّ الْأَبْيَضَ عِنْدَهُمْ اسْمٌ لِلْجَيِّدِ ثُمَّ الْجَيِّدُ عِنْدَهُمْ هُوَ الرُّومِيُّ، وَالْوَسَطُ السِّنْدِيُّ، وَالرَّدِيءُ الْهِنْدِيُّ.
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْجَيِّدُ هُوَ التُّرْكِيُّ، وَالْوَسَطُ الرُّومِيّ، وَالرَّدِيءُ الْهِنْدِيُّ، وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: قِيمَةُ الْخَادِمِ الْجَيِّدِ خَمْسُونَ دِينَارًا، وَقِيمَةُ الْوَسَطِ أَرْبَعُونَ، وَقِيمَةُ الرَّدِيءِ ثَلَاثُونَ، وَقِيمَةُ الْبَيْتِ الْوَسَطِ أَرْبَعُونَ دِينَارًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ زَادَ السِّعْرُ أَوْ نَقَصَ فَبِحَسَبِ الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ، وَهَذَا لَيْسَ بِاخْتِلَافٍ فِي الْحَقِيقَةِ فَفِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ كَانَتْ الْقِيَمُ مُسَعَّرَةً، وَفِي زَمَانِهِمَا تَغَيَّرَتْ الْقِيمَةُ، فَأَجَابَ كُلٌّ عَلَى عُرْفِ زَمَانِهِ وَالْمُعْتَبَرِ فِي ذِكْرِ الْقِيمَةِ بِلَا خِلَافٍ.
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى بَيْتٍ وَخَادِمٍ حَتَّى وَجَبَ الْوَسَطُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ صَالَحَتْ مِنْ ذَلِكَ زَوْجَهَا عَلَى أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْوَسَطِ سِتِّينَ دِينَارًا أَوْ سَبْعِينَ دِينَارًا جَازَ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهَا بِهَذَا الصُّلْحِ أَسْقَطَتْ بَعْضَ حَقِّهَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِمَا ثَمَانُونَ فَإِذَا صَالَحَتْ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ أَسْقَطَتْ الْبَعْضَ.
وَمَنْ لَهُ الْحَقُّ إذَا أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ وَاسْتَوْفَى الْبَاقِيَ جَازَ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى عَيْنِ الْحَقِّ بِإِسْقَاطِ الْبَعْضِ فَكَانَ الْبَاقِي عَيْنَ الْوَاجِبِ فَجَازَ فِيهِ التَّأْجِيلُ، فَإِنْ صَالَحَتْ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ، فَالْفَضْلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى إذَا لَمْ يَكُنْ مُسَعَّرًا، فَالْقِيمَةُ وَاجِبَةٌ بِالْعَقْدِ.
وَمَنْ وَجَبَ لَهُ حَقٌّ فَصَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى مَعْلُومَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى مَكِيلٍ مَوْصُوفٍ أَوْ مَوْزُونٍ مَوْصُوفٍ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَالٌ مَعْلُومٌ لَا جَهَالَةَ فِيهِ بِوَجْهٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ثَبَتَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْبَيْعُ بِهِ وَالسَّلَمُ فِيهِ وَيُضْمَنُ بِالْمِثْلِ فَيُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى دَفْعِهِ وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ عِوَضِهِ إلَّا بِرِضَا الْمَرْأَةِ.
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ وَلَمْ يَصِفْ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَعْلُومُ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ فَتَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ، فَإِنْ شَاءَ الزَّوْجُ أَعْطَاهَا الْوَسَطَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهَا قِيمَتَهُ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي جَامِعِهِ.
وَذَكَرَ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ الْوَسَطِ (وَجْهُ) مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْقِيمَةَ أَصْلٌ فِي إيجَابِ الْوَسَطِ؛ لِأَنَّ بِهَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ وَسَطًا فَكَانَ أَصْلًا فِي التَّسْلِيمِ كَمَا فِي الْعَبْدِ (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا أَوْجَبَ الْوَسَطَ فَقَدْ تَعَيَّنَ الْوَسَطُ بِتَعْيِينِ الشَّرْعِ فَصَارَ كَمَا لَوْ عَيَّنَّهُ بِالتَّسْمِيَةِ.
وَلَوْ سَمَّى الْوَسَطَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ كَذَا هَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ سَمَّى الْوَسَطَ وَنَصَّ عَلَيْهِ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَكَذَا إذَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الثِّيَابُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى ثِيَابٍ مَوْصُوفَةٍ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَلَّمَهَا وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ قِيمَتَهَا، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا سَمَّى لَهَا أَجَلًا أَوْ لَمْ يُسَمِّ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ أَجَّلَهَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهَا، وَإِنْ لَمْ يُؤَجِّلْهَا فَلَهَا الْقِيمَةُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا مِنْ غَيْرِ هَذَا التَّفْصِيلِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ (وَجْهُ) مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الثِّيَابَ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْقِيمَةِ لَا بِالْمِثْلِ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ وَلَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِنَفْسِهَا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ بَلْ بِوَاسِطَةِ الْأَجَلِ فَكَانَتْ كَالْعَبِيدِ، وَهُنَاكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ الْعَبْدِ وَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ الْقِيمَةَ كَذَا هَاهُنَا، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: إذَا أَجَّلَهَا فَقَدْ صَارَتْ بِحَيْثُ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا مُطْلَقًا أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فِي السَّلَمِ فَيُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ فِي الْبَيْعِ لَا يَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ رَأْسًا، وَالْمَهْرُ فِي النِّكَاحِ يَحْتَمِلُ ضَرْبًا مِنْ الْجَهَالَةِ فَلَمَّا ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ فِي الْبَيْعِ فَلَأَنْ تَثْبُتَ فِي النِّكَاحِ أَوْلَى (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ امْتِنَاعَ ثُبُوتِهَا فِي الذِّمَّةِ لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ فَإِذَا وُصِفَتْ فَقَدْ زَالَتْ الْجَهَالَةُ فَيَصِحُّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهَا إلَّا مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهَا يَقِفُ عَلَى التَّأْجِيلِ، بَلْ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا مُؤَجَّلًا وَالْأَجَلُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْمَهْرِ فَكَانَ ثُبُوتُهَا فِي الْمَهْرِ غَيْرَ مُؤَجَّلَةٍ كَثُبُوتِهَا فِي السَّلَمِ مُؤَجَّلَةً فَيُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا.
وَلَوْ قَالَ تَزَوَّجْتُكِ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ أَوْ عَلَى أَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفَيْنِ، فَالتَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُحَكَّمُ مَهْرُ مِثْلِهَا، فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا مِثْلَ الْأَدْوَنِ أَوْ أَقَلَّ فَلَهَا الْأَدْوَنُ إلَّا أَنْ يَرْضَى الزَّوْجُ بِالْأَرْفَعِ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا مِثْلَ الْأَرْفَعِ فَلَهَا الْأَرْفَعُ إلَّا أَنْ تَرْضَى الْمَرْأَةُ بِالْأَدْوَنِ وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا فَوْقَ الْأَدْوَن أَوْ أَقَلَّ مِنْ الْأَرْفَع فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: التَّسْمِيَةُ صَحِيحَةٌ وَلَهَا الْأَدْوَنُ عَلَى كُلِّ حَالٍ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَصِيرَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إيجَابِ الْمُسَمَّى، وَلَا تَعَذُّرَ هاهنا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إيجَابُ الْأَقَلِّ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا، وَفِي الزِّيَادَةِ شَكٌّ فَيَجِبُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ أَوْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى أَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ أَنَّهُ تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَتَجِبُ الْأَلْفُ كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَهْرَ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ غَيْرَ عَيْنٍ؛ لِأَنَّ كَلِمَة (أَوْ) تَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ غَيْرَ عَيْنٍ، وَأَحَدُهُمَا غَيْرُ عَيْنٍ مَجْهُولٌ فَكَانَ الْمُسَمَّى مَجْهُولًا، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ أَكْثَرُ مِنْ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَلَا تَرَى أَنَّ كَلِمَةَ (أَوْ) تَدْخُلُ بَيْنَ أَقَلِّ الْأَشْيَاءِ وَأَكْثَرِهَا فَتَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ فَيُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ الْمُوجَبُ الْأَصْلِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَّا عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِتَعْيِينِ الْمُسَمَّى وَلَمْ يُوجَدْ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ عَنْ الْأَدْوَن؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ رَضِيَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ وَلَا يُزَادُ عَلَى الْأَرْفَعِ لِرِضَا الْمَرْأَةِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا مَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الْعَبْدِ أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ أَنَّ الزَّوْجَ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَدْفَعَ أَيُّهُمَا شَاءَ أَوْ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ بِالْخِيَارِ فِي ذَلِكَ تَأْخُذُ أَيُّهُمَا شَاءَتْ أَنَّهُ تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ.
وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى مَجْهُولًا؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْجَهَالَةَ يُمْكِنُ رَفْعُهَا أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَرْتَفِعُ بِاخْتِيَارِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فَقَلَّتْ الْجَهَالَةُ فَكَانَتْ كَجَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَلَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ، هاهنا لَا سَبِيلَ إلَى إزَالَةِ هَذِهِ الْجَهَالَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خِيَارٌ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَخْتَارَ غَيْرَ مَا يَخْتَارُهُ صَاحِبُهُ فَفَحُشَتْ الْجَهَالَةُ فَمَنَعَتْ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ وَالْخُلْعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا مُوجِبٌ أَصْلِيٌّ يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي الْمُسَمَّى فَوَجَبَ الْمُتَيَقَّنُ مِنْ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ إيجَابَهُ أَوْلَى مِنْ الْإِيقَاعِ مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ أَصْلًا لِعَدَمِ رِضَا الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ بِذَلِكَ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَهُ مُوجِبٌ أَصْلِيٌّ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَّا عِنْدَ تَعَيُّنِ الْمُسَمَّى وَلَا تَعَيُّنَ مَعَ الشَّكِّ بِإِدْخَالِ كَلِمَةِ الشَّكِّ فَالْتَحَقَتْ التَّسْمِيَةُ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ وَاجِبَ الْمَصِيرِ إلَيْهِ.
وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَلْفٍ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ أَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ إنْ لَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ بَلَدِهَا وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ أَخْرَجَهَا مِنْ بَلَدِهَا أَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ إنْ كَانَتْ مَوْلَاةً وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ كَانَتْ عَرَبِيَّةً وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْمُؤَبَّدَ الَّذِي لَا تَوْقِيتَ فِيهِ لَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ لِمَا قُلْنَا: إنَّ الشُّرُوطَ لَوْ أَثَّرَتْ لَأَثَّرَتْ فِي الْمَهْرِ بِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ، وَفَسَادُ التَّسْمِيَةِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْعَدَمِ ثُمَّ عَدَمُ التَّسْمِيَةِ رَأْسًا لَا يُوجِبُ فَسَادَ النِّكَاحِ، فَفَسَادُهَا أَوْلَى.
وَأَمَّا الْمَهْرُ فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ وَقَعَ الْوَفَاءُ بِهِ فَلَهَا مَا سَمَّى عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الْوَفَاءُ بِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ أَوْ فَعَلَ خِلَافَ مَا شَرَطَ لَهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يُنْقَصُ مِنْ الْأَصْلِ وَلَا يُزَادُ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ وَقَالَ زُفَرُ: الشَّرْطَانِ فَاسِدَانِ، وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ مَسْأَلَةٍ مَشْهُورَةٍ فِي الْإِجَارَاتِ، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ رَجُلٌ ثَوْبًا إلَى الْخَيَّاطِ فَيَقُولُ: إنْ خَيَّطْتَهُ الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خَيَّطْتَهُ غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرْطَيْنِ يُخَالِفُ الْآخَرَ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ جَهَالَةَ التَّسْمِيَةِ فَتَصِحُّ التَّسْمِيَتَانِ، كَمَا إذَا قَالَ: لِلْخَيَّاطِ إنْ خَيَّطْتَهُ رُومِيًّا فَبِدِرْهَمٍ، وَإِنْ خَيَّطْتَهُ فَارِسِيًّا فَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ وَقَعَ صَحِيحًا بِالْإِجْمَاعِ وَمُوجِبُهُ رَدُّ مَهْرِ الْمِثْلِ إنْ لَمْ يَقَعْ الْوَفَاءُ بِهِ فَكَانَتْ التَّسْمِيَةُ الْأُولَى صَحِيحَةً، فَلَوْ صَحَّ الشَّرْطُ الثَّانِي لَكَانَ نَافِيًا مُوجَبَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ، وَالتَّسْمِيَةُ الْأُولَى وَالتَّسْمِيَةُ بَعْدَ مَا صَحَّتْ لَا يَجُوزُ نَفْيُ مُوجَبِهَا فَبَطَلَ الشَّرْطُ الثَّانِي ضَرُورَةً.
وَقَالَ: إنَّ مَا شَرَطَ الزَّوْجُ مِنْ طَلَاقِ الْمَرْأَةِ وَتَرْكِ الْخُرُوجِ مِنْ الْبَلَدِ لَا يَلْزَمُهُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَعْدٌ وَعَدَ لَهَا فَلَا يُكَلَّفُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى حُكْمِهِ أَوْ حُكْمِ أَجْنَبِيٍّ أَنَّ التَّسْمِيَةَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ مَجْهُولٌ وَجَهَالَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيمِ، ثُمَّ إنْ كَانَ التَّزَوُّجُ عَلَى حُكْمِ الزَّوْجِ يُنْظَرُ إنْ حَكَمَ بِمَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ أَكْثَرَ فَلَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِبَذْلِ الزِّيَادَةِ وَإِنْ حَكَمَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إلَّا أَنْ تَرْضَى بِالْأَقَلِّ، وَإِنْ كَانَ التَّزَوُّجُ عَلَى حُكْمِهَا فَإِنْ حَكَمَتْ بِمَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ أَقَلَّ فَلَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا، وَإِنْ حَكَمَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا لَمْ تَجُزْ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ إلَّا إذَا رَضِيَ الزَّوْجُ بِالزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ التَّزَوُّج عَلَى حُكْمِ أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ حَكَمَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ جَازَ، وَإِنْ حَكَمَ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا الزَّوْجِ، وَإِنْ حَكَمَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَالزَّوْجُ لَا يَرْضَى بِالزِّيَادَةِ وَالْمَرْأَةُ لَا تَرْضَى بِالنُّقْصَانِ؛ فَلِذَلِكَ تَوَقَّفَ الْأَمْرُ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عَلَى رِضَاهُمَا، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَا يَكْسِبُ الْعَامَ أَوْ يَرِثُ فَهَذِهِ تَسْمِيَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَقَدْ انْضَمَّ إلَى الْجَهَالَةِ الْخَطَرُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكْسِبُ وَقَدْ لَا يَكْسِبُ ثُمَّ الْجَهَالَةُ بِنَفْسِهَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ، فَمَعَ الْخَطَرِ أَوْلَى.
وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ عَلَى صَدَاقٍ وَاحِدٍ يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَقُولَ تَزَوَّجْتُكُمَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَتَا، فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَيَقْسِمُ الْأَلْفَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَهْرِ مِثْلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَلْفَ بَدَلًا عَنْ بُضْعَيْهِمَا، وَالْبَدَلُ يُقْسَمُ عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْمُبْدَلِ، وَالْمُبْدَلُ هُوَ الْبُضْعُ فَيُقْسَمُ الْبَدَلُ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِ، وَقِيمَتُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَنَّهُ يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا كَذَا هَذَا، فَإِنْ قَبِلَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى جَازَ النِّكَاحُ فِي الَّتِي قَبِلَتْ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: بِعْتُ هَذَا الْعَبْدَ مِنْكُمَا فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ أَصْلًا، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: تَزَوَّجْتُكُمَا فَقَدْ جَعَلَ قَبُولَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَرْطًا لِقَبُولِ الْأُخْرَى، وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، فَكَانَ إدْخَالُ الشَّرْطِ فِيهِ فَاسِدًا، وَالنِّكَاحُ لَا يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَالْبَيْعُ يَفْسُدُ بِهِ، وَإِذَا جَازَ النِّكَاحُ تُقْسَمُ الْأَلْفُ عَلَى قَدْرِ مَهْرِ مِثْلِهِمَا لِمَا قُلْنَا فَمَا أَصَابَ حِصَّةَ الَّتِي قَبِلَتْ فَلَهَا ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَالْبَاقِي يَعُودُ إلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ فِي عِدَّةٍ مِنْ زَوْجٍ أَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَلْفِ الَّتِي يَصِحُّ نِكَاحُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَهُمَا تُقْسَمُ الْأَلْفُ عَلَى قَدْرِ مَهْرِ مِثْلَيْهِمَا فَمَا أَصَابَ حِصَّةَ الَّتِي صَحَّ نِكَاحُهَا فَلَهَا ذَلِكَ، وَالْبَاقِي يَعُودُ إلَى الزَّوْجِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّهُ جَعَلَ الْأَلْفَ مَهْرًا لَهُمَا جَمِيعًا، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَالِحٌ لِلنِّكَاحِ حَقِيقَةً لِكَوْنِهَا قَابِلَةً لِلْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ الْمُحَرَّمَةَ مِنْهُمَا لَا تُزَاحِمُ صَاحِبَتَهَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ؛ لِخُرُوجِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِذَلِكَ شَرْعًا مَعَ قِيَامِ الْمَحَلِّيَّةِ حَقِيقَةً، فَيَجِبُ إظْهَارُ أَثَرِ الْمَحَلِّيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي الِانْقِسَامِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَهْرَ يُقَابِلُ مَا يُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَهُوَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ، وَهَذَا الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْمُحَرَّمَةِ لَا يُمْكِنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ لِخُرُوجِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلْعَقْدِ شَرْعًا، وَالْمَوْجُودُ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَالْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ سَوَاءٌ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ الْمَهْرُ بِمُقَابَلَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالْأَتَانِ وَقَالَ: تَزَوَّجْتُكُمَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ دَخَلَ الزَّوْجُ بِاَلَّتِي فَسَدَ نِكَاحُهَا فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ التَّسْمِيَةُ فِي حَقِّهَا فَالْتَحَقَتْ التَّسْمِيَةُ بِالْعَدَمِ، وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يُجَاوِزُ حِصَّتَهَا مِنْ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَعْتَبِرَانِ التَّسْمِيَةَ فِي حَقِّهِمَا فِي حَقِّ الِانْقِسَامِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ عَلَى السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ أَنَّهَا تَصِحُّ أَوْ لَا تَصِحُّ.
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ السُّمْعَةَ فِي الْمَهْرِ إمَّا أَنْ تَكُونَ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي جِنْسِهِ فَإِنْ كَانَتْ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ بِأَنْ تَوَاضَعَا فِي السِّرِّ وَالْبَاطِنِ، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَكِنَّهُمَا يُظْهِرَانِ فِي الْعَقْدِ أَلْفَيْنِ لِأَمْرٍ حَمَلَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَقُولَا: أَلْفٌ مِنْهُمَا سُمْعَةٌ، فَالْمَهْرُ مَا ذَكَرَاهُ فِي الْعَلَانِيَةِ وَذَلِكَ أَلْفَانِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ مَا يَكُونُ مَذْكُورًا فِي الْعَقْدِ وَالْأَلْفَانِ مَذْكُورَتَانِ فِي الْعَقْدِ فَإِذَا لَمْ يَجْعَلَا الْأَلْفَ مِنْهُمَا سُمْعَةً صَحَّتْ تَسْمِيَةُ الْأَلْفَيْنِ وَإِنْ قَالَا الْأَلْفُ مِنْهُمَا سُمْعَةٌ، فَالْمَهْرُ مَا ذَكَرَاهُ فِي السِّرِّ وَهُوَ الْأَلْفُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَهْرَ مَا أَظْهَرَاهُ وَهُوَ الْأَلْفَانِ.
(وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَهْرَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُمْلَكُ بِهِ الْبُضْعُ، وَاَلَّذِي يُمْلَكُ بِهِ الْبُضْعُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْعَقْدِ وَأَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَعْلُومٌ فَتَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ وَيَصِيرُ مَهْرًا وَلَا تُعْتَبَرُ الْمُوَاضَعَةُ السَّابِقَةُ (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُمَا لَمَّا قَالَا: الْأَلْفُ مِنْهُمَا سُمْعَةٌ فَقَدْ هَزَلَا بِذَلِكَ قَدْرَ الْأَلْفِ حَيْثُ لَمْ يَقْصِدَا بِهِ مَهْرًا، وَالْمَهْرُ مِمَّا يَدْخُلُهُ الْجَدُّ وَالْهَزْلُ فَفَسَدَتْ تَسْمِيَتُهُ قَدْرَ الْأَلْفِ وَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ، فَبَقِيَ الْعَقْدُ عَلَى أَلْفٍ، وَإِنْ كَانَتْ السُّمْعَةُ مِنْ جِنْسِ الْمُهْرِيَّاتِ تَوَاضَعَا وَاتَّفَقَا فِي السِّرِّ وَالْبَاطِنِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلَكِنَّهُمَا يُظْهِرَانِ فِي الْعَقْدِ مِائَةَ دِينَارٍ، فَإِنْ لَمْ يَقُولَا: رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ فَالْمَهْرُ مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ قَالَا: رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ فَتَعَاقَدَا عَلَى ذَلِكَ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّ لَهَا مَهْرَ الْعَلَانِيَةِ مِائَةَ دِينَارٍ.
(وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمِائَةَ دِينَارٍ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْعَقْدِ، وَالْمَهْرُ اسْمٌ لِلْمَذْكُورِ فِي الْعَقْدِ لِمَا بَيَّنَّا فَيُعْتَبَرُ الْمَذْكُورُ وَلَا تُعْتَبَرُ الْمُوَاضَعَةُ السَّابِقَةُ (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَلْفُ لَمْ يَذْكُرَاهُ فِي الْعَقْدِ، وَمَا ذَكَرَاهُ وَهُوَ الْمِائَةُ دِينَارٍ مَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ فَلَمْ تُوجَدْ التَّسْمِيَةُ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا لَمْ يَتَعَاقَدَا فِي السِّرِّ وَالْبَاطِنِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْمَهْرِ قَدْرٌ أَوْ جِنْسٌ ثُمَّ يَتَعَاقَدَا عَلَى مَا تَوَاضَعَا وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ.
فَأَمَّا إذَا تَعَاقَدَا فِي السِّرِّ عَلَى قَدْرٍ مِنْ الْمَهْرِ أَوْ جِنْسٍ مِنْهُ ثُمَّ اتَّفَقَا وَتَوَاضَعَا فِي السِّرِّ عَلَى أَنْ يُظْهِرَا فِي عَقْدِ الْعَلَانِيَةِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ جِنْسًا آخَرَ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا فِي الْمُوَاضَعَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ ذَلِكَ سُمْعَةٌ، فَالْمَهْرُ مَا ذَكَرَاهُ فِي الْعَلَانِيَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى الْمَهْرِ الْأَوَّلِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ، فَجَمِيعُهُ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى الْمَهْرِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ فَقَدْرُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَهْرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ زِيَادَةً.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: الْمَهْرُ مَهْرُ السِّرِّ (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْمَهْرَ مَا يَكُونُ مَذْكُورًا فِي الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالْإِقَالَةَ؛ فَالثَّانِي لَا يَرْفَعُ الْأَوَّلَ فَلَمْ يَكُنْ الثَّانِي عَقْدًا فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ الْمَذْكُورُ عِنْدَهُ، فَكَانَ الْمَهْرُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّهُمَا قَصَدَا شَيْئَيْنِ اسْتِئْنَافُ الْعَقْدِ وَزِيَادَةٍ فِي الْمَهْرِ، وَاسْتِئْنَافُ الْعَقْدِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَالزِّيَادَةُ صَحِيحَةٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ زَادَ أَلْفًا أُخْرَى أَوْ مِائَةَ دِينَارٍ، وَإِنْ ذَكَرَا فِي الْمُوَاضَعَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ الزِّيَادَةَ أَوْ الْجِنْسَ الْآخَرَ سُمْعَةٌ، فَالْمَهْرُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي لَغْوٌ؛ لِأَنَّهُمَا هَزَلَا بِهِ حَيْثُ جَعَلَاهُ سُمْعَةً، وَالْهَزْلُ يَعْمَلُ فِي الْمَهْرِ فَيُبْطِلُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.